
السلطة الرابعة : فواز تللو … شكراً لكم حريتي .
ولدت منذ ما يزيد عن نصف قرن، قبيل ضياع بقايا الحرية والديمقراطية من بلدي سوريا عام 1963، وهكذا لم أحظى بلحظة حرية طوال حياتي. كبرت وأنا أسمع القصص من والدي، أسمعها وكأني طفل يستمع لقصص الطفولة الجميلة لكنها ليست عن ممالك الجن والخضرة والفضيلة والكرامة الخرافية بل هي قصص دولة وآباء الاستقلال وبرلمانهم والحرية التي بنوها وعاشوها وما دار من قصص رمزية عنهم، وكيف دفعوا ثرواتهم ووضعوا أنفسهم تحت القانون حتى لو شغلوا أعلى المناصب،
وكيف جهدوا دوما من أجل الحفاظ على استقلال البلاد وحريتها في مقابل انقلابيين قاطعوهم مرارا وقد أخطأت بوصلة دوافعهم ودباباتهم الاتجاه لكنها انتصرت في النهاية على دولة الاستقلال ووأدتها في تلك اللحظة الانقلابية في ستينات القرن الماضي والتي رافقت ولادتي، فعشنا ما عشناه حتى اليوم، نغمض أعيننا ليلا ونحن نحلم بالحرية والكرامة،
لنفتحها على العبودية والذل في صباحات رمادية مغبرة تتوالى بكآبتها وقحطها كشمس الظهيرة في منتصف صيف عربي لاهب على صحراء أرواحنا البائسة بالذل والعبودية … وانعدام الأمل.
وجاء يوم الثامن عشر من آذار حيث انطلقت أولى المظاهرات من درعا وبضعة مناطق أخرى في سوريا، سبقها إرهاصات تمثلت في مظاهر احتجاجية في القلب التجاري (منطقة الحريقة) واعتصامات من اجل الثورتين الليبية والمصرية، ومن ثم مظاهرة صغيرة “طيارة” في الخامس عشر من آذار من باب الجامع الأموي تبعها في اليوم التالي اعتصام آخر أيضا في قلب دمشق ومن ساحة الشهداء (ساحة المرجة)،اعتصام لأهالي المعتقلين وأصدقائهم وكنت حاضرا في هذا الأخير وبعض الاعتصامات التي سبقتها، وفي المناسبات جميعا قمع الجميع بشدة وضربوا وأهينوا أمام أعين المارة الخائفين العاجزين …
لكنها كنات أعينا غاضبة أيضا، واعتقل الكثيرون من نساء وأطفال من الأهالي في اعتصام وزارة الداخلية، ونظم نفس من ضربوا المعتصمين واعتقلوهم، نظموا مسيرة تأييدهم التي صورها الإعلام السوري على أنها عفوية من المارة، وقالت روايتهم الرسمية يومها أن مطالب الأهالي مشروعة وقد تم استقبالهم، غير أن مندسين هم من تم قمعهم لأنهم اعتدوا على الأهالي والأمن. يومها سيق الجميع للسجن حيث وجهت لهم في اليوم التالي أي في مساء يوم الخميس السابع عشر من آذار التهم الزائفة، أما من تظاهروا قرب الجامع الأموي فقد ضربوا وأهينوا وعذبوا ووقع بعضهم على أوراق تفيد بأنهم قبضوا الأموال مقابل فعلهم ذاك، ليشكل كل ما سبق، سيناريو لم يزل متبعا حتى اليوم من قبل النظام بأجهزته وإعلامه في مقابل كل مظاهرة أو احتجاج. في مساء ذلك الخميس، بعد أودع الكثيرون السجن وكنت أيضا حاضرا مع أهالي المعتقلين،
شعرت يومها بإحباط شديد ويأس كان قد بدأ يتسرب إلى روحي منذ أشهر، لشعوري أن هذه الثلة الصغيرة من السوريين تخوض وحدها حلم حرية سوريا وتدفع الثمن غاليا بنفسها وعائلاتها بينما يراقبهم باقي السوريين بعجز واستسلام مع أن الحرية هي مستقبل الجميع؟ شعور بالإحباط وفقدان الأمل، شعور لم يراودني حتى في زنزانتي الانفرادية التي عشت فيها لسنوات حيث كنت أهرب من سجني ليلا حالما بالحرية، لأفتح عيني صباحا على جدران الزنزانة لكنني كنت دائما وبثقة أعيش أملا بالحرية لسوريا. وجاء الرد سريعا في اليوم التالي، يوم الجمعة الثامن عشر من آذار حيث بدأت المظاهرات مؤذنة بسوريا الجديدة الحرة الرائعة التي حلمت وحلم بها كل السوريين وانطلقت الثورة في ذلك اليوم الوطني المجيد،
ومنذ ذلك اليوم أشعر بخجل من نفسي كلما تذكرت كيف أسأت الظن بهذا الشعب السوري العظيم متصورا انه قد استسلم إلى الأبد، هذا الشعب الذي بث منذ ذلك اليوم المشهود، بث في روحي نسمات الحرية التي حرمت منها منذ ولادتي، بتضحيات وشجاعة لا توصف في وجه قمع لا يوصف أيضا، بالصدر العاري واليد العزلاء والصوت الجريء،
وضع هؤلاء الشجعان سوريا على سكة الحرية. الشهداء وما أدراكم ما الشهداء، هم سادتنا الخالدون بعد أن أهدونا حياتهم وأهدوا لسوريا حريتها. يا أهل الشهيد، أنتم أهلونا فهلا مننتم علينا بقبولنا أبناء وإخوة لكم؟ أقبل أيديكم الطاهرة التي ربت هؤلاء الأخيار. أيها المعتقلون، أيها النبلاء الأحرار مع أنكم في السجن، وكرامتكم في الأعالي رغم كل العذاب والإذلال الذي يمارسه جلادوكم، ومن ينسى عبارة “عفس … عفس”،
كلمة الجلادين المفضلة في أوكار التحقيق حيث يدخلون زنزاناتكم كل بضعة ساعات ليذيقوكم سوء العذاب في ساعات من المفترض أن تكون استراحة ما بين حفل عذاب وآخر. أيها المعتقلون الأحرار، بعظمتكم أشعرتموني بحريتي وإنسانيتي لأول مرة منذ ولدت. أيها الجرحى، جراحكم وسام ثوابه عند الله أولا، أيتها العفيفات المغتصبات انتن الشرف إن تمثل بإنسان، أيها اللاجئون أنتم أصحاب الأرض ومن يستحقا وستعود لكم سوريا؛ كل سوريا بإذن الله. لم نعد وحيدين، ولست وحيدا بعد اليوم، لا خلف قضبان الزنزانة، ولا خلف أسوار سوريا التي بناها السفاح، ملايين السوريين الأحرار باتوا عائلتي التي تقف معي وأقف معها بجسدي وروحي وعقلي وكل ما أملك، شكرا لكم حريتي، شكرا لكم حرية كل السوريين.
السلطة الرابعة : برلين : فواز تللو