
السلطة الرابعة : فواز تللو : أي تطمينات تعطيها الضحية للأقليات في سوريا
قبل أربع سنوات ونيف وقبل حلول المناسبة الدينية المسيحية التي تسبق عيد الفصح بيومين والتي تسمى “الجمعة العظيمة” شكل رئيس المخابرات الجوية “اللواء جميل حسن” وفدا من الوجوه المسيحية مهمته زيارة التجمعات والمناسبات المسيحية في دمشق (ومثله في مناطق اخرى) لتحذر من أن الثورة السورية “إسلامية سلفية مسلحة” تريد قتل المسيحيين،
وأذكر من أسماء ذلك الوفد في دمشق كل من كوليت خوري وجورجيت عطية والأب الياس زحلاوي وآخرين، وقد قامت اللجنة بعملها بحماس وبتأثير كبير في كل الأوساط المسيحية، تأثير لم يتوقعه يومها من شكل هذه اللجنة وصولا إلى يوم “الجمعة العظيمة”. وقبل أربع سنوات تماما سمى الثوار جمعتهم الثامنة للثورة “الجمعة العظيمة”،
سماها الثوار السلميون كذلك ليقولوا للمسيحيين بأن “الشعب السوري واحد” والثورة ليست طائفية إسلامية وأنها ثورة من أجل الحرية ودولة المواطنة، ولم يكن يومها قد شارك فعليا من المسيحيين في الثورة غير بضع عشرات كحد أقصى وهو رقم لم يرتفع كثيرا بعد ذلك. في ذلك اليوم قبل أربع سنوات وفي يوم “الجمعة العظيمة” سقط مائة وخمسة وعشرون شهيدا موثقاً استطاع المتظاهرون سحب جثثهم، وكان رقما قياسيا وطفرة في القتل ارتكبها النظام مقارنة بالجمع السابقة، كما اعتقل الآلاف تبين أن مئات منهم قتلوا لاحقا تحت التعذيب،
كما سحب النظام يومها مئات الجثث لشهداء اعتقد الناس يومها أنهم معتقلون، فكان أن قدم الثوار السلميون يومها “تطمينات” للأقليات والمسيحيين منهم تحديدا تمثلت بدم مئات الشهداء الذين فجع بهم بشكل مباشر آلاف من عائلاتهم التي فقدت وحيدها أو معيلها.
في يوم “الجمعة العظيمة” الذي يعتقد المسيحيون أن المسيح قد صلب فيه قبل ألفي عام، قدم فيه السوريون المسلمون السنة حصرا قبل أربع سنوات مئات الشهداء وآلاف المعتقلين الذين تعرضوا لأقسى أنواع التعذيب والصلب ليقولوا للمسيحيين “اطمئنوا ولا تخافوا أنتم إخوة لنا ومواطنون مثلنا في الوطن الجديد المنشود والثورة والحرية”.
بعد شهرين من الجمعة العظيمة كان “فاروق الشرع” يحضر لمؤتمر الحوار في فندق “صحارى” في ضواحي دمشق، يومها قال لي أحد الشخصيات السياسية المعارضة المسيحية المعروفة أنه ولقطع الطريق على النظام قبل المؤتمر وحتى لا يتاجر بقضية الأقليات، في المناسب ان ابذل جهودا في الأوساط الثورية والإسلامية فصدار بيانات تطمينات للأقليات، فكان أن أحضرت له بعد يومين ملفا يحتوي حوالي الأربعين بيانا صدرت خلال الأشهر الأربعة للثورة من شخصيات إسلامية عديدة تمثل معظم الطيف المعروف، وبيانات من كل المناطق الثائرة تقريبا، وبيانات من تجمعات ثقافية واجتماعية إسلامية سنية عديدة، كلها كانت بيانات تقول بان الهدف هو دولة الحرية المدنية والمواطنة المتساوية لكل السوريين وفق نظام ديموقراطي،
وهكذا لم يكن الأمر بيانات جديدة لتضاف لكل هذه البيانات مع ان المئات من هذه البيانات لم تتوقف عن الصدور بما فيها المعارضة المعاقة التي يتهمها البعض كذبا بالتقصير في “تطمين الأقليات” لكنها والحق يقال لم تقصر في هذا المجال. أيضا بعد شهرين من تلك “الجمعة العظيمة” الثورية التي عمدها السوريون المسلمون السنة بالدم، وفي نفس إطار الجهود السابقة زرت أحد كبار المطارنة في مقر البطركية في دمشق والتي يحتل فيها هذا المطران المحترم موقعا قياديا متقدما، زيارة رتبتها وجمعته فيها مع شيخ مسلم سني معتدل معروف مؤيد للثورة،
وكان الهدف يومها جهود كنت أقوم بها لإيصال رسائل “التطمينات” للمسيحيين، وأيضا يومها لم يكن قد حمل أحد السلاح بعد وكان المسلمون السنة يموتون ويعذبون وحيدين كالعصافير وسط تسونامي موسم صيد وسعار طائفي أقلوي يحركه النظام ضدهم، وخلال ثلاث ساعات من لقائنا بالمطران عرضنا فيها الكثير من الحقائق والتطمينات وقلت يومها فيما قلت أنه يكفينا منهم على الأقل موقف الحياد داخليا وخارجيا فحتى هذا الموقف سيعزز مكانتهم في سوريا المستقبل وهو الذي يمثل ضمانتهم الحقيقية التي يحققوها بأنفسهم، ثلاث ساعات لم نسمع خلالها أسفا واحدا منه على شهدائنا ومعتقلينا وعذاباتنا ونهبنا لكنا كنا نتابع المحاولات معه بصدق ومحبة.
نفس هذا المطران كان في الوفد الذي حضر مؤتمرا مسيحيا لرجال الدين في أوروبا منذ عامين، وزار الولايات المتحدة الأمريكية منذ أشهر ضمن وفد من المطارنة والبطاركة قادة الكنائس السورية، وقدم في الحالتين رؤيته في أن النظام السوري هو حامي المسيحيين والأقليات في سوريا ويجب دعمه في حربه على “الإرهابيين” منكرا وجود ثورة وضحية في الطرف الآخر، فالضحية صورها فقط بضع عشرات من المسيحيين المدنيين ومثلهم من المدنيين من باقي الأقليات الذين سقطوا خلال الثورة ومثلهم بضع مئات كحد أقصى من الشبيحة المسيحيين الذين سقطوا أثناء معاركهم غير المقدسة ضد الشعب السوري الثائر. وبالعودة إلى اللقاء قبل أربع سنوات الذي جمعت به المطران المحترم مع الشيخ السني المعتدل المعروف،
فقد كانت صدمة اللقاء في نهايته، فبعدما تصورنا أننا أنجزنا خطوة أولى صغيرة على الأقل بكل محاولاتنا مع تجاهله التام لكل ما يفعله النظام السوري بالسوريين الثائرين السلميين؛ كانت المفاجئة أن المطران المحترم وقبيل مغادرتنا ختم قائلا أن “الثورة قد وجهت له كمسيحي إهانة كبيرة قبل شهرين تمثلت في استخدامها “اسم الجمعة العظيمة” المقدس لديه عندما أطلقت الاسم على جمعة من جمع الثورة ولوثت بالتالي تلك المناسبة الدينية المقدسة لديه بالدماء”، فهكذا قرأ “تطمينات” الدم التي قدمتها الثورة يومها.
بعد هذا، ترى أي “تطمينات” كافية يمكن إعطائها وفي أي ظرف ووفق أي تضحيات؟ ومن عليه أن يعتذر ويقدم التطمينات؟ الضحية التي قدمت ما استطاعت من ضمانات بدمائها ومعاناتها، أم من يدعم الجلاد في جريمته؟ أكثرية حافظت على وجود الأقلية بينها طوال أربعة عشر قرنا أم من يحتمي بنظام طائفي أقلوي استولى على السلطة وخلال نصف قرن دمر هذه الوحدة السورية الاجتماعية التاريخية مشعلا نار الطائفية البغيضة لدى كثير من جمهور الأقليات التي هللت لاضطهاده لهذه الأكثرية اللاطائفية؟
إن الحفاظ على النظام الطائفي هو الضمانة الوحيدة التي قد ترضي هؤلاء، وهي الضمانة التي لن يحلموا بالحصول عليها مهما طالت الثورة والمعاناة، لا بمؤامرات الحل السلمي والتفاوض الحالي ولا بتقديم دعم عسكري غير محدود للنظام، فالثورة ستنتصر في النهاية وشأن من يؤيد النظام منهم أن يحصل على ما عمل عليه مع النظام ضد الثورة وأنصارها خاصة من المسلمين السنة الذين يمارس بحقهم حصرا كل أنواع الاضطهاد والنهب والتهجير الطائفي بهدف تغيير الديموغرافيا بتأييد من الأقلويين الطائفيين المؤيدين له،
شأن هؤلاء أن يحصلوا على ما عملوا وايدوا فعله بحق أهل الثورة، أليس في ذلك كل العدل. أيضا، لا ضمانات لكل من حمل السلاح بوجه السوريين الثائرين وشارك بقتلهم وتعذيبهم ونهبهم لأي طائفة انتمى وتحت أي ذريعة بما فيها ذلك العذر الأقبح الذي يقول أن المساكين “خائفون” من الضحية، فالضحية ليس مطلوبا منها تقديم التطمينات، بل هي مطلوبة ممن يؤيدون القاتل ويبررون جرائمه لدى المجتمع الدولي بكذبة حمايته للأقليات، وهؤلاء هم من عليهم تقديم اعتذارهم وتطميناتهم للضحية.
“فصح مجيد” لكل مسيحي شريف أيد الثورة السورية حتى ولو بقلبه، أو حتى بقي على الحياد الحقيقي الذي لا يخدم نظام السفاح الطائفي بأي شكل لا في داخل سوريا ولا في العالم، وهل هناك أقل من هكذا موقف حياد يمثل “التطمينات” بحدها الأدنى التي يجب أن تقدمها الأقليات للضحية؟
السلطة الرابعة : فواز تللو – سياسي وكاتب سوري برلين – المانيا الجمعة العظيمة الخامسة للثورة السورية العظيمة 12/04/2015
تنويه : مقالات الرأي تعبر عن رأي وفكر كاتب المقال , ولاتعبر بالضرورة عن رأي ” السلطة الرابعة “