السلطة الرابعة : مصعب الحمادي ..من هو حسن الدغيم “إمام النشطاء” وأقوى رجل دين في الثورة؟

السلطة الرابعة : مصعب الحمادي ..من هو حسن الدغيم “إمام النشطاء” وأقوى رجل دين في الثورة؟

حرصت على أن أحصل على صورةٍ للشيخ حسن الدغيم وهو يحتضن أولاده بين يديه لأن هذ الصورة هي أحسن تعبيرٍ عن الطريقة التي احتضن بها الشيخ مقاتلي الثوار خلال الشهور الطويلة التي انتقضت حتى الآن من عمر الثورة.

يشكّل الشيخ حسن حالةً نادرةً لرجل الدين السوري الذي يهتم لأمر مجتمعه في كل التفاصيل, والذي هاله أمرين مع انطلاق الثورة لم يستطع الوقوف مكتوف الأيدي حيالهما:

الأمر الأول هو إجرام النظام السوري وردة فعله العنيفة على المظاهرات السلمية أوائل عام 2011 حيث كان الشيخ حينها إمام الجامع الكبير في مدينة خان السبل على الطريق الدولية بين معرة النعمان وحلب. حينها خرجت أول مظاهرة من الجامع في شهر أيار بتأثيرٍ من الخطب النارية للشيخ حسن التي فضح فيها جرائم النظام في درعا وبانياس وغيرها من المدن التي كانت انتفضت سلمياً في ذلك الوقت.

والأمر الثاني الذي حرك الشيخ حسن وزجّ به أكثر في أتون الثورة هو انفتاح بوابات جهنم على الثورة السلمية المدنية التي قامت في البلاد, من حيث تفريخ فصائل القاعدة, وجماعات الفكر التكفيري التي فرح النظام في ازدهارها كأفضل وسيلةٍ تعطيه المبررات لسحق الثورة مع بداية العمل المسلح, وإدراكه أن ذريعة الإرهاب هي أسرع طريقة لإخماد الانتفاضة بغطاءٍ شرعي.

وهكذا وجد الإمام الشاب الذي لم يكن يتجاوز عمره ثلاثةً وثلاثين عاماً مع بداية الثورة نفسه طريداً في القرى والضيعات, تخفره مجموعةٌ من الثوار لا تتعدى العشرين مقاتلاً استشهدوا كلهم الآن باستثناء شخص واحد اسمه أبو حسين بقي على قيد الحياة حتى الآن, لكنه معتقل في سجون جبهة النصرة في قرية معردبسة.

لم يولد الشيخ حسن الدغيم ابن مدينة جرجناز في إدلب وفي فمه ملعقةً من ذهب. وعندما ضاقت به الأحوال بداية الثورة اضطر لبيع دراجته النارية بمبلغ 200 دولار أميركي كي يسدد فواتير تراكمت عليه في مشفى سراقب في إدلب. ولهذا السبب فإن مشاركة الشيخ بالثورة لم تكن رفاهيةً, فالساحة كانت تفتقد لأمثاله, وسط التردد الذي أبداه المشايخ ورجال الدين في وقوفهم مع الثوار في البدايات.

يقول الشيخ حسن الدغيم: ” لم أدخل الثورة بحثاً عن مناصب ولا أنظر إلى ما في أيدي الناس.”

وهو يحلم بعد نهاية الثورة أن يعود إلى كتبه ومباحثه, ويخرج من معمعة وضجيج هذا العالم الصاخب زيادةً بالنسبة لرجل دينٍ حالمٍ وعميقٍ مثله.

كان ثوار الشمال سعداء جداً برؤية الشيخ حسن بين صفوفهم وأسندوا إليه منذ بداية الثورة رئاسة المحكمة الشرعية في خان السبل, وهي المهمة التي بقي يتقلدها حتى أواخر عام 2012.

كان الشيخ حسن يصل الليل بالنهار طوال تلك الفترة بالعمل على التقريب بين الفصائل المختلفة, وتقديم النصح والمشورة لمجموعات النشطاء, وفصائل المقاتلين. كما عمل على ترشيد الثورة, وتنبيه الثوار إلى الأخطاء والأولويات.

فقد كان ينبه في بدايات الثورة مثلاً إلى أهمية السلمية والحراك السلمي, ثم – وأمام إجرام النظام – أجاز الشيخ للجيش الحر حمل السلاح للدفاع عن المظاهرات السلمية.

عمل الشيخ حسن مع ثوار معرة النعمان وجبل الزاوية وسراقب. وهو لم ينتمِ لأي فصيل . وعمله يزيد وينقص مع فصيلٍ من الفصائل حسب الاعتبارات الجغرافية ليس إلا.

برزت الحاجة للشيخ حسن وحكمته خصوصاً مع بداية أسلمة الثورة, وبروز الفصائل الجهادية ذات التوجه السلفي. فوزنه المعنوي الكبير كرجل دين جعله “يمون” على الجميع, وخصوصاً أنه كان ضيفاً دائما على كل القادة, ابتداءً بضباط الجيش الحر, مروراً بجمال معروف, وانتهاءً بأمراء أحرار الشام وجبهة النصرة وداعش. الكل يحترم الشيخ حسن, والكل يخاف إغضاب الشيخ حسن, وإذا تكلم الشيخ حسن سكت الجميع.

كان الحمل ثقيلاً جداً على الإمام الشاب. فمشايخ سوريا – والذين كثيراً ما اتهمهم النشطاء بالموالاة للنظام – كانوا شبه غائبين, وحضورهم خجولٌ جداً, وهو ما مكن القاعدة من عقول الشباب السوري الذين تركتهم المرجعيات الدينية المحلية نهباً لما هبّ ودب من منظري القاعدة, وأدبيات الأيديولوجيات الضيقة المتعصبة التي ساهم إجرام النظام أيضاً ومجازره الطائفية في ازدهارها على الأرض السورية.

لا يُخفي الشيخ حسن غضبه على أقرانه من المشايخ والمرجعيات الدينية. فهو يتساءل بألمٍ في إحدى رسائله: “هل القنيبي والمقدسي والفلسطيني معني بثورة الشام أكثر من مشيخة حلب وحمص ودمشق؟”

وهو يشير خصوصاً في هذا السياق إلى المجلس الإسلامي السوري الذي أعلنه كوكبة من مشايخ وأئمة سوريا في اسطنبول أوائل عام 2014. حيث أن المجلس المذكور لم ينشط إلا لشهرٍ واحد ثم دخل في “السبات والقيلولة” على حد تعبير الشيخ الدغيم.

وإخفاق هذا المجلس وغيره من المحاولات الخجولة لمشايخ ومراجع الدين الإسلامي في سوريا هو ما شجع الشيخ حسن على أن يمضي أبعد في خطواته للانخراط العملي المباشر مع الثوار والمقاتلين محاولاً الوقوف في وجه طوفان التكفير والتخوين من أدعياء الجهاد, ومستنكراً على مشايخ سوريا دورهم الذي لم يتعد حتى اليوم “الصلاة على جنازة الثورة”, على حد تعبيره.

وبسبب معارضته العلنية للفكر التكفيري ولمناهج داعش وجبهة النصرة وغيرها من الفصائل المتطرفة التي باتت جزءاً من العمل القتالي على الساحة السورية تعرض الشيخ حسن للخصومة الشديدة من قبل بعض تلك الفصائل, خصومة وصلت إلى حد تكفيره هو نفسه مع استشراء هذا المرض واستفحاله في جسد الثورة خصوصاً أواسط عام 2013, وهي الفترة التي يقول الشيخ حسن أنه بدأ يشعر فيها أن الثورة في خطر.

يعتقد الشيخ حسن أن مادة الثوار وقواعدهم, سواء الذين انضووا في الفصائل الجهادية, أم أولئك الذين بقوا مع الجيش الحر, مع الثورة قلباً وقالباً, ويحملون حماسة وروح الثورة كما كانت في صيحتها الأولى. إلا أنه عندما يأتي الأمر للقادة فالأمر مختلف. وهنا يبرز الشيخ حسن في وجهه الوطني الأجمل, فهو يعلن صراحةً أن قادة الجيش الحر هم الأقرب للثورة. لكن القادة لن يلبثوا أن يخيبوا أمل الشيخ فمعظمهم “تحصيلهم ضعيف جداً.”

وحتى عندما يحاول الشيخ التبرير لهم بأن مسؤولياتهم كبيرة, والإمكانيات المتاحة قليلة, فهو لا يتورع عن لومهم والتقريع عليهم رغم كل ذلك. وكيف نتوقع للشيخ أن يكون راضٍ عنم بعد هذا الحال الذي وصلت إليه الثورة؟

فمع أن جمال معروف مثلاً كان مطواعاً بين يدي الشيخ حسن, سريع السماع للنصح والإرشاد, قوي الاستجابة لوساطاته أيام الفتن والإشكاليات,إلا أنه لم يسلم من نقده, فجمال حتى وإن كان ” مجاهداً ومخلصاً وشريفاً (إلا أنه) متهورٌ ومجازفٌ واستبدادي.”

بالمقابل يبدو الشيخ حسن أقلّ تعاطفاً عندما يأتي الأمر للحركات الجهادية كأحرار الشام. فمع أنه يذكر بحزن الأيام الخوالي مع الأمير المؤسس أبي عبدالله الحموي يوم كان يقطع مسافات هائلة, ويصل خلال 24 ساعة لأي مكان يتواجد به الشيخ من أجل وساطات المصالحة والتوحد, وجلسات تجنب الفتن, إلا أن أحرار الشام كحركةٍ وكمنهج لا يبدو أنها تروق للشيخ حسن بنفس السوية التي يروق له بها الجيش الحر.

بل إن الشيخ – من خلال مكانته الدينية – بدا حريصاً في كل أعماله وأقواله على “قطع الطريق على هواة المزاودات وعشاق المجازفات الذين لا يرون الدين إلا عروشاً تحيط بها الجواري وتضرب فيها الجزية,” كما قال في إحدى رسائله التي خصّ بها أحرار الشام. ولنا أن نرى كيف أنه يستخدم لغة قاسية معهم, لا تخلو من سخريةٍ دفينة, وما ذلك إلا لأن حسن الدغيم – رغم كونه إماماً صارماً من حيث الظاهر – رجل واقعي يؤمن بضرورة العمل على ما هو ممكن بعيدا عن “العنتريات الموروثة والخطابات الرنانة (التي) تستعذب التوحش وتستعدي الأمم وتستجلب أوزار الماضي وتقيم إمارتها وخلافتها ودور قضائها على العظام المحطمة والنفوس المتعبة والخيام الممزقة.”

وفي نفس الرسالة التي وجهها مؤخراً للقيادة الجديدة لحركة أحرار الشام الإسلامية يحث الشيخ الحركة على القيام بمراجعات للمفاهيم السياسية من قبيل “الانتخابات والشراكة المجتمعية والتحالف السياسي,” والتفريق بين ” الرضا بالشيء وبين قبول التعاقد السياسي وبين الممكن وبين المبتغى وبين الواقع وبين المثال وبين المستطاع وبين المراد.”

قبل حوالي الشهرين اضطر الشيخ حسن الدغيم لمغادرة سوريا مكرهاً. فحالة الشرخ التي ازدادت بالثورة جعلت رأسه مطلوباً لمن كانوا بالأمس يُخضعون رقابهم لكلماته. فجبهة النصرة التي تمردت على الجيش الحر والثورة ما كانت لتقيم وزناً للإمام الذي طالما نُظر إليه على أنه أقرب للنشطاء والتنسيقيات منه إلى منظري الجهاد الذين تقع النصرة وأشباهها تلقائياً تحت وصايتهم الأيديولوجية.

لكن الشيخ وجد في مدينة الريحاينة الحدودية مع سوريا فسحةً تلقائيةً كي يبسط عباءته الفكرية والمعنوية على مزيدٍ من فصائل وقادة الثوار والحراك الثوري في سوريا. ومن خلال مبادرته الشهيرة لتوحيد فصائل الجيش الحر اكتسب الشيخ حسن خضوع واحترام فصائل من المقاتلين وسط وجنوب البلاد ما كان تفويضه المعنوي ليصل إليهم من قبل. وهكذا صار الرجل القوي المفتاح الذي تفتح به مغاليق القادة على كامل الأرض السورية. وهو الوسيلة الأسرع للتواصل مع أي قائد في الثورة, باستثناء قادة داعش والنصرة وجند الأقصى الذين ما ناصبوا العداء للشيخ حسن إلا بعد أن ناصبوا العداء للثورة وللشعب السوري بأكمله.

هناك مآخذ عديدة على الشيخ حسن. فالرجل – ورغم حماسه الثوري الواضح – إلا أنه يُسجّل عليه تردده وعدم الوضوح في خطابه الثوري, واستخدامه لمصطلحات جهادية صرفة تشي بتبنيه لأفكار – لو صحت عليه – لقلنا أنه بعيد عن الثورة بمعناها المدني. لكن الشيخ على الأغلب يستخدمها بشكلٍ عفوي غير مقصود بسبب وقوعه هو نفسه ضحية لذلك الكم الهائل من الأدب الجهادي الذي ازدهر في الثورة واعتاش بخبثٍ على دماء الشهداء. من هذه المصطلحات ما ورد في رسالته المفتوحة لحركة أحرار الشام الإسلامية التي ذكر فيها عباراتٍ غريبة عن أدبيات الثورة والنشطاء مثل “الاصطفاف السني” و”الدولة المسلمة الحديثة”, بالإضافة لدعوته لحركة أحرار الشام إلى نصرة الشعب السوري “تحت سقف الإسلام,” على حدّ تعبيره.

ومع أنه أنكر على المشايخ السوريين في المجلس الإسلامي السوري إصدارهم لبيانات المناشدة والتوسل لتنظيم القاعدة رغم اعتبار التنظيم لهم علماء السلطان وقاعدين عن الجهاد, إلا أنه عاد وناقض نفسه فكتب رسالةً مطولةً في موقع (زمان الوصل) يحاور فيها تنظيم القاعدة, ويذكر مآخذه عليه بلغة الناصح الأمين, رغم ما خبره هو شخصياً من إجرام التنظيم, ورفضه للحوار, وتكفيره للطرف المخالف.

وما هو جميل وملفت في ذلك الرد – رغم اعتراضنا عليه من حيث المبدأ – أن الشيخ الدغيم لم يتورع عن اتهام تنظيم القاعدة – ولو بشكلٍ غير مباشر – بتشويه سمعة الإسلام, واستباحة المحرمات, وسفك دماء المسلمين, وإعلان الإمارات المهرجانية المفرغة من مضمونها كإمارة الشام الأخيرة في بعض قرى الشمال السوري.

ورغم تلك المآخذ يبقى الشيخ حسن الدغيم رجل الدين الأقوى في الثورة. فهو الوعاء الواسع الذي يستوعب جميع الثوار: من مقاتلي الحر, مروراً بمجاهدي الأحرار وجيش الإسلام, وصولاً إلى نشطاء التنسيقيات والمجتمع المدني. إنه الأب الواسع الحضن, والرمز العزيز في وقتٍ عزّ فيه الرموز لأمةٍ ضاقت الأرض بأبنائها, وصار مراد أكثرهم سفينةً تمخر بهم لجج البحار, وتنقلهم إلى بلاد اللجوء.

السلطة الرابعة : مصعب الحمادي . كلنا شركاء

تنويه : مقالات الرأي تعبر عن رأي وفكر كاتب المقال , ولاتعبر بالضرورة عن رأي ” السلطة الرابعة “

شارك