د.هاني الملاذي: السعودية وتركيا… حكمةُ الاحتواء وضبطُ البوصلة الإقليمية

د.هاني الملاذي: السعودية وتركيا… حكمةُ الاحتواء وضبطُ البوصلة الإقليمية

خلال 24 ساعة حل اثنان من أهم قادة المنطقة ضيفين على الملك السعودي، الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ثم الزعيم التركي رجب طيب أردوغان، في ترتيب زمني لم يكن بالمطلق اعتباطياً ولامصادفة.

وإن كان ظاهر القمة السعودية التركية توثيق التعاون الثنائي بين البلدين، فإن جوهرَها لابد تجاوز حدود البروتوكولات المتعارف عليها، باتجاه ترسيخ وتعزيز التنسيق في الملفات الإقليمية المختلفة بوتائر متسارعة في ضوء المستجدات والتحديات الكبرى التي باتت تواجه أمن واستقرار المنطقة، خصوصاً زحف وتوغل إيران في جغرافية دول الجوار، وكذلك تنامي تهديدات التنظيمات الإرهابية المتطرفة.

تعاون سابق

لاشك أن تطوير التعاون لن يكون بجديد على قيادتي البلدين بمقدار ما سيؤسس على ما تم بناؤه خصوصاً في السنوات العشر السابقة، فحزب العدالة والتنمية استهل مرحلة قيادته لتركيا عام 2002 باستراتيجية قوامها هويتها الإسلامية وليبرالية اقتصادها بشكل فتح المجال لتعزيز علاقاتها مع دول الجنوب انطلاقاً من سورية وانتهاء بالفضاء الخليجي الواسع. وبالمقابل فتح مجلس التعاون الخليجي بقيادة المملكة المجال كي تغدو تركيا “الإسلام المعتدل” ثقلاً استراتيجياً بموازات الثقل الإيراني في المنطقة.

وكان اهتمام أنقرة بتعزيز العلاقات مع الرياض واضحاً وشهد على صعيد التعاون الاقتصادي مؤشرات عدة بدأت باتفاقية معاهدة إنشاء مجلس الأعمال المشترك عام 2003، ثم إنشاء إنشاء صندوق الاستثمار من أجل تشجيع الاستثمارات الخليجية الخاصة والحكومية في تركيا عام 2005، واستثمرت رؤوس الأموال الخليجية المليارات في قطاعات العقارات والمصارف والرعاية الصحية والتعليم والاتصالات في تركيا. وازدادت هذه الاستثمارات من مستويات لا تُذكَر عام 2003 إلى نحو مليارَي دولار عام 2008، ونمت التجارة بين تركيا ودول مجلس التعاون الخليجي من أقل من مليارَي دولار عام 1998 إلى أكثر من ثمانية مليارات دولار عام 2009.

وازداد حجم التبادل التجاري بين السعودية وتركيا لأكثر من 5.5 مليار دولار، قبل الأزمة الاقتصادية العالمية، وعاد التبادل التجاري بين البلدين إلى مستوياته بعد انتهاء الأزمة الاقتصادية مع توقيع معاهدات حماية الاستثمارات المشتركة وتجنب الازدواج الضريبي، وبلغ حجم التبادل التجاري 4.65 مليار دولار بنهاية عام 2010. وبلغ عدد المشاريع المشتركة نحو 160 مشرورعاً.

كما وقّعت السعودية وتركيا اتفاق تعاون عسكري في أيار/مايو 2010، يغطّي التدريب والأبحاث العلمية والتنمية التكنولوجية. مع قيام الشركة التركية “إف إن إس إس” بتحديث مئات ناقلات الجند المدرّعة “إم113″ أمريكية الصنع.

ثم توّجت أشكال التعاون بزيارة وصفت بالتاريخية قام بها الملك سلمان بن عبد العزيز إلى تركيا في 23 أيار مايو 2013 حين كان ولياً للعهد ووزيراً الدفاع، وأفضت إلى توقيع اتفاقية التعاون الصناعي – الدفاعي المشترك، إلا أن الشراكة التي كان من المفترض تطويرها خصوصاً في شقها العسكري، لم تستثمر نتائجها كما أراد لها الجانبان نتيجة التطورات في مصر لاحقاً وتباين المواقف على أثرها.

تحديات مشتركة

لم يعد خافياً أن موقف حزب العدالة والتنمية من تنظيم الإخوان المسلمين عموماً، وعلاقاته مع مصر خصوصاً وتشعب صراعات المنطقة، واختلاف التوجهات والرؤية حول تفاصيل بعض ملفاتها الإقليمية قد ألقى بظلال سلبية على العلاقات الخليجية التركية إجمالاً خلال عام ونصف العام، إلا أن إعادة إنتاج وتقويم العلاقة يبدو أمراً لا مفر منه في ضوء التحديات والمستجدات الأخيرة. فقد بات واضحاً أن النظام الإيراني بالغ في استغلال التباعد الخليجي التركي والتنافر التركي المصري، حين وسّع من توغله وعبثه بأمن بلدان المنطقة فزاد تدخله العسكري المباشر في العراق وسورية وأخيراً في اليمن، واستمرت طهران تتدخل بشؤون لبنان والبحرين، مستخدمة الغطاء الشيعي الطائفي وقوداً لذلك، ما ينذر باحتمالات كارثية على أمن واستقرار دول المنطقة، ولم يعد بالإمكان ضبط عواقب نتائجه لو ترك يستمر.

وهنا لابد أدرك حزب العدالة والتنمية أن أولى المبادئ التي أطلقها منذ وصوله الحكم عام 2002 “صفر مشاكل” مع الجيران وأهم ايديولوجياته القائمة على طرح نفسه كإسلام معتدل يوافق العلمانية والليبرالية لاتستقيم مع استمراره تبني أو دعم تيار إسلامي سياسي إشكالي، أثبت فشله في أكثر من مناسبة فضلاً عن تسببه في شرخ استقرار وأمن المنطقة. كذلك لاتستقيم مع غض الطرف عن الشحن والتمدد الطائفي الذي تقوده إيران من جهة أخرى.

والمملكة تدرك بالمقابل -ورغم تحفظها لعلاقة أنقرة مع جماعة الأخوان- أن “إسلام” حزب العدالة والتنمية يختلف بكل المقاييس عن “إسلام” حزب الإخوان، وهذه قد تشكل ركيزة براغماتية وحيوية لإعادة العلاقات إلى سابق قوتها وربما أكثر إن تم التأكيد على ضوابطها، وهو أمر لم يعد التركي يخفي استعداده وقبوله به. كذلك تدرك المملكة أن تركيا هو الحليف الأقوى والأفضل في المنطقة على الأقل بالنظر إلى زاوية الرؤية المشتركة للملف السوري فكلاهما يتماهيان في رفض أي طرح يتضمن بقاء الأسد أو التقسيم ويصران على استقلالية دمشق عن المحور الإيراني.

آفاق مشتركة

فضلاً عن التحديات السابقة، تدرك الرياض وأنقرة معاً أن تعزيز العلاقات والشراكات بين البلدين سيؤول إلى ترسيخ استقرار أمني إقليمي بين قطبين أساسيين في المنطقة، يمكن لاحقاً أن تنضمّ إليهما مصر المعافاة، سيكون وحده الكفيل بتسريع القضاء على الإرهاب الذي استحضر إلى المنطقة، وبلجم الطموح الإيراني وتحييده، وحل المأساة السورية، لاسيما في ظل تقاعس الأقطابِ الدولية أو تجاهلها لخطورة ذلك. وهي أمورٌ كرر البلدان التعبير عن استيائهما إزاءه في أكثر من مناسبة.

كما أن تركيا إلى جانب المملكة هي الدولة الإسلامية الثانية ضمن مجموعة العشرين “جي 20″، وترسيخ شراكة أو تعاون اقتصادي استراتيجي بين المملكة التي تمتلك 25٪ من احتياطيات النفط العالمي، وأكبر دولة مصدرة له، وبين تركيا أسرع اقتصادات العالم نمواً خلال السنوات العشر السابقة وتحتل المرتبة الـ16 من حيث الناتج المحلي الإجمالي، وأبرز منتجي السلع الزراعية، والمنسوجات، ومعدات النقل، ومواد البناء؛ هو ترسيخ لشراكة بين الصناعة ووقودها، ولابد ستكتمل معها أهم محركات النهضة والتنمية للبلدين.

مؤشرات لعودة العلاقات

فور صدور نبأ وفاة الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز، قطع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان جولته الأفريقية وتوجه للسعودية للمشاركة في مراسم التشييع الرسمية، كما أمر بإعلان يوم 24 كانون الثاني/ يناير يوم حداد رسمي وبتنكيس الأعلام على المؤسسات والمباني الرسمية في بادرة هي الأولى من نوعها على الإطلاق في تاريخ البلاد. ولم يمضِ أسبوع على زيارة الرئيس التركي إلى السعودية معزياً، حتى أرسلت أنقرة الفرقاطة الحربية “تي جيه جي – بويوك آدا (F-512)” إلى ميناء جدة البحري في إطار مناورات عسكرية مع دول البحر الأحمر.

ثم كانت دعوةُ ولي ولي العهد ووزير الداخلية الأمير محمد بن نايف فور تسلّمه لمنصبه نظيره التركي «أفغان ألاء» لزيارة المملكة في 17 شباط/فبراير، حيث تم التباحث في شأن التعاون الأمني المشترك بين الجانبين. وبعدها بيومين زار الجنرال «نجدت أوزال» رئيس هيئة أركان الجيش التركي السعودية في 19 شباط/فبراير، حيث التقى كبار المسؤولين وحضراجتماع قوات التحالف المشترك ضد تنظيم داعش.

وفي قراءة من الناحيتين البروتوكولية والزمنية على الأقل، فإن كل ماسبق كان استثنائياً.

لماذا التفاؤل

اليوم يتفاءل الأتراك بتحسن العلاقات التركية -السعودية، لأن جلالة الملك سلمان بن عبدالعزيز، هو من تولّى ملف العلاقة مع أنقرة حين كان وليا العهد ووزيراً للدفاع، وقد سبق أن تمكن خلال زيارته الشهيرة إلى تركيا في 23 أيار مايو 2013 من التأسيس لمرحلة من العلاقات الاستراتيجية.

ومايوضّح أيضاً رغبة التركي واندفاعه، اعتراف أردوغان للصحافيين عقب جولته الإفريقية –بشفافية- بوجود نقاط ضمن ملفات سورية ومصر وفلسطين والموقف من “الإخوان المسلمين” لا تتفق حولها الرؤية التركية مع الرؤية السعودية، وتأكيده بذات الوقت ضرورة وجود عمل مشترك بين البلدين وأن بلاده لا تريد أن تتيح الفرصة لهذا الاختلاف حتى يعكر العلاقات الثنائية.

ومايدفع بالمقابل للرهان على نجاح المسعى التركي، هو ماخبرناه مؤخراً عن حكمة سعودية أثمرت باحتواء الاختلاف القطري الخليجي ثم الخلاف القطري المصري، وهو ما سيزيد الرهان على صوابية قراءة المملكة للمشهد الإقليمي للمرحلة المقبلة.

القمة أغلب المؤشرات تقول إنها ستنجح، وبعدها بأسابيع قد يقرر الملك سلمان بن عبد العزيز اختيار تركيا كأول وجهة لزياراته الخارجية منذ توليه سدة الحكم، ربما فعل ذلك، وإن فعل ليس مبالغة القول حينها إن صفحة جديدة من خارطة المنطقة، قد تفتح!

*كاتب وإعلامي سوري

شارك